فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (55):

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)}
{إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فاكهون} على تقدير كون الخطاب السابق خاصًا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الإخبار بحسن حال أعدائهم إثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين، وعلى تقدير كونه عامًا ابتداء كلام وإخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب، والشغل هو الشأن الذي يصدر المرء ويشغله عما سواه من شؤنه لكونه أهم عنده من الكل إما لإيجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد هاهنا هو الأول، وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال، وعن ابن عباس. وابن مسعود. وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار.
وقيل السماع وروى عن وكيع. وعن ابن كيسان التزاور، وقيل ضيافة الله تعالى وهي يوم الجمعة في الفردوس الأعلى عند كيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعًا، وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب، وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا، ولعل التعميم أولى.
وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه من جملة أشغالهم، وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه، وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار، والجار مع مجروره متعلق حذوف وقع خبرًا لأن و{فاكهون} خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر و{فِى شُغُلٍ} متعلق به أو حال من ضميره؛ والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. عن ابن عباس فرحون، وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فهي.
وقال أبو زيد: الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي، وقال أبو مسلم: إنه مأخوذ من الفاكهة بالضم وهي التحدث ايسر، وقيل: التمتع والتلذذ قيل {فاكهون} ذووا فاكهة نحو لابن وتامر.
وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الاسمية قبل تحققها لتنزيل المترقب المتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو {شُغُلٍ} بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين كما قال الفراء.
وقرأ مجاهد. وأبو السمال. وابن هبيرة فيما نقل عنه ابن خالويه بفتحتين، ويزيد النحوي. وابن هبيرة أيضًا فيما نقل عنه أبو الفضل الرازي بفتح الشين وإسكان العين وهما لغتان أيضًا فيه.
وقرأ الحسن. وأبو جعفر. وقتادة. وأبو حيوة. ومجاهد. وشيبة. وأبو رجاء. ويحيى بن صبيح. ونافع في رواية {فاكهون} جمع فكه كحذر وحذرون وهو صفة مشبهة تدل على المبالغة والثبوت، وقرأ طلحة. والأعمش {فاكهين} بالألف وبالياء نصبًا على الحال و{فِى شُغُلٍ} هو الخبر، وقرئ {فَكِهِينَ} بغير ألف وبالياء كذلك، وقرئ {فاكهون} بفتح الفاء وضم الكاف وفعل بضم العين من أوزان الصفة المشبهة كنطس وهو الحاذق الدقيق النظر الصادق الفراسة وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (56):

{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)}
{هُمْ وأزواجهم فِي ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ} استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورًا من شركة أزواجهم، فهم مبتدأ و{أزواجهم} عطف عليه و{مُتَّكِئُونَ} خبر والجاران صلة له قيل قدما عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجاران بما تعلقا به من الاستقرار أخبار مترتبة، وجوز أن يكون الخبر هو الرف الأول والظرف الثاني متعلق تكئون وهو خبر مبتدأ محذوف أي هم متئكون على الأرائك أو الظرف متعلق حذوف خبر مقدم و{متئكون} مبتدأ مؤخر والجملة على الوجهين استئناف بياني، وقيل: {هُمْ} تأكيد للمستكن في خبر أن أعني {فاكهون} أو {في شغل} [يس: 55]. ومنعه بعضهم زعمًا منه أن فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي و{مُتَّكِئُونَ} خبر آخر لها و{على الارائك} متعلق به وكذا {فِى ظلال} أو هو متعلق حذوف هو حال من المعطوف والمعطوف عليه، ومن جوز مجيء الحال من المبتدأ جوز هذا الاحتمال على تقدير أن يكون {هُمْ} مبتدأ أيضًا، والضلال جمع ظل وجمع فعل على فعال كثير كشعب وشعاب وذئب وذئاب، ويحتمل أن يكون جمع ظلة بالضم كقبة وقباب وبرمة وبرام، وأيد بقراءة عبد الله. والسلمي. وطلحة. وحمزة. والكسائي {فِي ظُلَلٍ} بضم ففتح فإنه جمع ظلة لا ظل والأصل توافق القراءات، ومنذر بن سعيد يقول: جمع ظلة بالكسر وهي لغة في ظلة بالضم فيكون كلقحة ولقاح وهو قليل.
وفسر الإمام الظل بالوقاية عن مظان الألم؛ ولأهل الجنة من ظل الله تعالى ما يقيهن الأسواء والجمع باعتبار مالك واحد منهم من ذلك أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاة. ويحتمل أنه جمع باعتبار كونه عظيم الشأن جليل القدر كجمع اليد عنى القدرة على قول في قوله تعالى: {والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47].
وفسر أبو حيان الظلال جمع ظلة بالملابس ونحوها من الأشياء التي تظل كالستور، وأقول قال ابن الأثير الظل الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان، وقيل هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس وما كان بعده فهو الفيء، وأنت تعلم أن الظل بالمعنى الذي تعتبر فيه المس لا يتصور في الجنة إذ لا شمس فيها، ومن هنا قال الراغب: الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، وجاء في ظلها ما يدل على أنه كالظل الذي يكون في الدنيا قبل طلوع الشمس، فقد روى ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن عباس أنه سئل ما أرض الجنة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل: ما نورها؟ قال: ما رأيت الساعة التي قبل طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير، وذكر ابن عطية نحو هذا لكن لم يعزه.
وتعقبه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل صحيح وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على أن حوراء من حور الجنة لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا أو نحو من هذا، ويمكن الجواب بأن المراد تقريب الأمر لفهم السائل وإيضاح الحال بما يفهمه أو بيان نورها في نفسها لا الأعم منه ومما يحصل فيها من أنوار سكانها الحوار العين وغيرهم.
نعم نورها في نفسها أتم من نور الدنيا قبل طلوع الشمس كما يومئ إليه ما أخرجه ابن ماجه عن أسامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها أي لا عدل ولا مثل وهي ورب الكعبة نور يتلألأ» الحديث، ويجوز حمل الظلال جمع ظل هنا على المعنى وجمعه للتعدد الاعتباري، ويجوز حمل الظل على العزة والمناعة فإنه قد يعبر به عن ذل وبهذا فسر الراغب قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي ظلال وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] وهو غير معنى الوقاية عن مظان الألم الذي ذكره الإمام، ويجوز حمله على أنه جمع ظلة على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوهما ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه فقد جاء في الكتاب وصح في السنة أن فيها غرفًا وهي ظاهرة فيما كان ذا سقف بل صرح في بعض الأخبار بالسقف وجاء فيها أيضًا ما هو ظاهر في أن فيها شجرًا مرتفعًا يظل من تحته، وقد صح من رواية الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها فاقرؤا إن شئتم {وظالم مَّمْدُودٍ}» وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها الخبر، وابن الأثير يقول: معنى في ظلها في ذراها وناحيتها، وكان هذا لدفع أنها تظل من الشمس أو نحوها، و{الارائك} جمع أريكة وهو السرير في قول، وقيل: الوسادة حكاه الطبرسي. وقال الزهري: كل ما اتكئ عليه فهو أريكة، وقال ابن عباس: لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة فالسرير والحجلة أريكة. وفي حادي الأرواح لا تكون أريكة إلا أن يكون السرير في الحجلة وأن يكن على السرير فراش، وفي الصحاح الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير والجمع أرائك، وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانًا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات.
وبالجملة إن كلام الأكثرين يدل على أن السرير وحده لا يسمى أريكة نعم يقال للمتكئ على أريكة متكئ على سرير فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] لجواز أن تكون في السرر في الحجال فتكون أرائك، ويجوز أن يقال: إن أهل الجنة تارة يتكئون على الأرائك وأخرى يتكئون على السرر التي ليست بارائك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ورد في وصف سررهم رزقنا الله تعالى وإياكم الجلوس على هاتيك السرر والاتكاء مع الأزواج على الأرائك، والظاهر أن المراد بالأزواج أزواجهم المؤمنات اللاتي كن لهم في الدنيا، وقيل أزواجهم اللاتي متن ولم يتزوجن في الدنيا فزوجهن الله تعالى في الجنة من شاء من عباده بل الأعم من ذلك كله ومن المؤمنات اللاتي تزوجن في الدنيا بأزواج ماتوا كفارًا فأدخلوا النار مخلدين فيها وأدخلن الجنة كامرأة فرعون فقد جاء في الأخبار أنها تكون زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم وجوز أن يكون المراد بأزواجهم أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الايمان كما قال سبحانه: {وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أزواج} [ص: 85] وقريب منه ما قيل المراد به أخلاؤهم كما في قوله تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم} [الصافات: 22] وقيل يجوز أن يراد به ما يعم الاشكال والإخلاء ومن سمعت أولًا، وأنت تعلم بعد إرادة ذلك وكذا إرادة الاشكال أو الإخلاء بالخصوص.

.تفسير الآية رقم (57):

{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)}
{لَهُمْ فِيهَا فاكهة} بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسماني والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الإنس ومحافل القدس تكميلًا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة كذا قيل، ويجوز أن يكون استئنافًا بيانيًا وقع جواب سؤال نشأ مما يدل عليه الكلام السابق من اشتغالهم بالإنس واتكائهم على الأراشك عدم تعاطيهم أسباب المأكل والمشرب فكأنه قيل: إذا كان حالهم ما ذكر فكيف يصنعون في أمر مأكلهم؟ فأجيب بقوله سبحانه: {لَهُمْ فِيهَا فاكهة} وهو مشير إلى أن لهم من المأكل ما لهم على أتم وجه، وأفيد أن فيه إشارة إلى أنه لا جوع هناك وليس الأكل لدفع ألم الجوع وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحمًا، والتنوين للتفخيم أي فاكهة جليلة الشأن، وفي قوله سبحانه: {لَهُمْ فِيهَا فاكهة} دون يأكلون فيها فاكهة إشارة إلى كون زمام الاختيار بأيديهم وكونهم مالكين قادرين فإن شاؤا أكلوا وإن شاؤا أمسكوا.
{وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} أي ما يدعون به لأنفسهم أي لهم كل ما يطلبه أحد لنفسه لا أنهم يطلبون فإنه حاصل كما إذا سألك أحد فقلت: لك ذلك تعني فلم تطلب أو لهم ما يطلبون بالفعل على أن هناك طلبًا وإجابة لأن الغبطة بالإجابة توجب اللذة بالطلب فإنه مرتبة سنية لاسيما والمطلوب منه والمجيب هو الله تعالى الملك الجيل جل جلاله وعم نواله، فيدعون من الدعاء عنى الطلب، وأصله يد تعيون على وزن يفتعلون سكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، وقيل: بل ضمت العين لأجل واو الجمع ولم يلق حركة الياء عليها وإنما حذفت استثقالًا ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين فصار يدتعون فقلبت التاء دالًا وأدغمت، وافتعل عنى فعل الثلاثي كثير ومنه اشتوى عنى شوى واجتمل عنى جمل أي أذاب الشحم.
قال لبيد:
فاشتوى ليلة ريح واجتمل

و{لَهُمْ} خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وهي موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف وهو إضما ضمير مجرور أو ضمير منصوب على الحذف والإيصال، وجوز أن تكون منا نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية فالمصدر حينئذ مبتدأ وهو خلاف الظاهر، والجملة عطف على الجملة قبلها، وعدم الاكتفاء بعطف {مَا} على {فاكهة} لئلا يتوهم كونها عبارة عن توابع الفاكهة ومتمماتها.
وجوز أن يكون {يَدَّعُونَ} من الافتعال عنى التفاعل كارتموه عنى تراموه أي لهم ما يتداعون، والمعنى كل ما يصح أن يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم أو ما يطلبه بعضهم من بعض بالفعل لما في ذلك من التحاب، وأن يكون من الافتعال على ما سمعت أولًا إلا أن الادعاء عنى التمني.
قال أبو عبيدة: العرب تقول ادع على ما شئت عنى تمن على، وتقول فلان في خير ما ادعى أي تمني أي لهم ما يتمنون، قال الزجاج: وهو مأخوذ من الدعاء أي كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، وقيل: افتعل عنى فعل فيدعون عنى يدعون من الدعاء عناه المشهور أي لهم ما كان يدعون به الله عز وجل في الدنيا من الجنة ودرجاتها. وقوله تعالى: